الحق في المعرفة

من ويكي أضِف
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

المعرفة قوة

الحق في المعرفة هو حق إنساني أصيل لا يتحقق بشكله الكامل إلا إذا استطعنا الوصول إلى تحرير المعرفة مما فرض و يفرض عليها من قيود. والحق في المعرفة هو حق واسع يشمل ثلاثة مساحات متسعة وهي؛

  • الحق في المعرفة العلمية (المعرفة المفتوحة).
  • الحق في المعرفة التاريخية (فتح الأرشيفات؛ مراجعة التاريخ).
  • الحق في معرفة الواقع المعاش (الحق في الوصول إلى المعلومات و تداولها).

وسوف نتعرض في هذه المحاضرة لكل واحد من هذه المجالات ونناقش أهميته و ما يفرض عليه من قيود والآثار المترتبة على الحرمان من هذا الحق و تعرض لبعض ما نرى أنه خطوات في سبيل الحصول على هذا الحق.

الحق في المعرفة العلمية (المعرفة الحرة)

كيفية بناء المعارف البشرية

تُبنى المعرفة البشرية بالتراكم، أي أن تَعلّم الإنسان لما انتجه مَن سبقوه من معارف يتيح له أن ينتج إضافته الخاصة إلى المعرفة البشرية. بدون هذا التراكم، ليس هناك من سبيل لإضافة جديد إلى المعرفة البشرية إلا بمحاولة إعادة اختراع العجلة، و في هذا ما فيه من إهدار للموارد في إعادة اكتشاف وبناء ما تم اكتشافه وبنائه بالفعل، وبدون الاستفادة مما انتجه السابقون من معارف وما ارتكبوه من أخطاء، لا يمكن للمعرفة البشرية أن تنمو وتزدهر. وعلى المستوى الشخصي فإن حرمان الإنسان من حقه في التعلم مما انتجه السابقون من معارف يحرمه من إمكانية بناء معرفته الخاصة والمشاركة الفعالة في دفع عجلة البشرية إلى الأمام.

و لعل أفضل من عبر عن هذه الفكرة هو إسحق نيوتن عندما قال إذا كنت قد رأيت أبعد من غيري فذلك لأني اقف على أكتاف عمالقة" - العلماء الذين سبقوني.

"If I could see further, its only because I stand on the shoulders of giants

إلا ان المنظومة الحالية للملكية الفكرية تهدم مبدأ تراكم المعرفة هذا وتتيح احتكار المعرفة وحجبها عن البشرية بهدف خلق قيمة اقتصادية لهذه المعرفة. فمن خلال هذه المنظومة، تحولت المعرفة من ملكية عامة للبشرية تدفع عجلة التطور إلى سلعة تباع لمن يستطيع أن يدفع الثمن. و يروج مناصرو هذه الفكرة أن السماح باحتكار المعرفة وتقنين هذا الاحتكار إنما يؤسس لاقتصاد قائم على المعرفة ويتيح لكل مؤسسة أو دولة أن تنتج معرفتها وتحتكرها وتبيعها لمن يحتاجها وبالتالي تخلق مصدر للدخل لمنتجو المعرفة يشجعهم على إعادة الابتكار و الإبداع.

إلا أن هذه الادعاءات تخالف الواقع و تخفي الكثير من الضرر بالذات للدول الأفقر. فحجب المعرفة عن الأفقر يحرمه من فرصة التعلم من خبرات من سبقوه وبالتالي يصبح غير قادر على إنتاج إضافته إلى المعرفة البشرية والمشاركة في هذه المنظومة الاقتصادية المبنية على المعرفة. فلا يكون له إلا سبيل من أثنين، الأول إعادة إنتاج المعرفة من الصفر، و هذا بالطبع غير عملي وغير واقعي حيث انه، كونه الأفقر، لا يملك ما يكفي من الموارد لإعادة بناء هذه المعرفة. كما ان موارده تستنزف في الحصول على نتاج هذه المعرفة ذاتها والتي يمتلكها الأغنى بالفعل. وبإفتراض ان الدول الأفقر تمتلك رفاهية إنفاق نفس النسبة من الدخل القومي على البحث العلمي، فإن هذه النسبة كقيمة تمثل نسبة صغيرة من إنفاق الدول الأغنى، كما ان السبق الذي تمتلكه الدول الأغنى في مجال إمتلاك المعرفة والفارق المهول في حجم المعرفة المتراكمة الموجودة لديها بالمقارنة بالدول الأفقر، والتي تشكل الأساس لأي عملية تطوير لمعرفة إضافية، يضمن ان ما ستنتجه الدول الأفقر من معرفة سيظل أقل كماً ومستوى من المعرفة الموجودة لدى الدول والمؤسسات الأغنى وأن الفجوة بين حجم وقيمة المعرفة المتراكمة في الدول الأغنى وتلك المتراكمة في الدول الأفقر ستستمر في الزيادة. و مع الاتساع المستمر لهذه الفجوة، سيزداد استنزاف موارد الدول الأفقر، وبالتالي ستقل قدرتها على إنتاج المعرفة أكثر مع مرور الوقت.


أما الخيار الثاني فهو الحصول على هذه المعرفة عن طريق ما تُصَنّفه منظومة الملكية الفكرية بسرقة المعرفة، و هو ما لجأت إليه دول مثل اليابان بعد الحرب العالمية الثانية والصين في العقود الأخيرة لكونه الخيار الوحيد العملي المطروح للحصول على المعرفة. حيث تضع منظومة الملكية الفكرية الحالية الأسس والقواعد لمعاقبة من يسعى للحصول على المعرفة من هذا السبيل، و تمتد هذه العقوبات من معاقبة الأفراد بالحبس والغرامة إلى معاقبة الدول عن طريق العقوبات الاقتصادية والحصار الاقتصادي.


أما عن الادعاء بان العائد المادي الناتج من بيع نتاج المعرفة يحفز الإبداع والابتكار وإنتاج المزيد من المعرفة، مما يحقق أكبر منفعة ممكنة للبشرية بشكل عام فهو على افضل الفروض ادعاء صحيح بشكل جزئي. فارتباط هذا الحافز في المنظومة الحالية للملكية الفكرية بحجب المعرفة يعنى أن من انتج المعرفة في بادئ الأمر واحتكرها هو وحده من له حق البناء على ما توصل إليه من معرفة، وبما انه ليس هناك مِن ضامن لأن من أنتج المعرفة هو الأجدر والأقدر على تطويرها، فإن هذا الاحتكار يحرم البشرية من فرص تطوير هذه المعرفة على يد من هم أجدر وأقدر من مُنتجها الأصلي وبالتالي يحرم البشرية من تحقيق أفضل استفادة من هذه المعرفة.


كما أن دراسة النظام الاقتصادي القائم على منظومة الملكية الفكرية يظهر بوضوح أن من يحقق أكبر قدر من العائد الاقتصادي ليس هم المبدعين، إنما هي المؤسسات التي تحتكر ما ينتجه المبدعين من المعرفة، حيث تقوم هذه المؤسسات بتشغيل المبدعين بأجر واحتكار إنتاجهم الفكري. و بما ان هذه المؤسسات هي كيانات تهدف للربح فإن هدفها الرئيسي هو زيادة أرباحها وليس إنتاج المزيد من المعرفة، ومع كون عملية الإبداع عملية ليست مضمونة النتائج وتحتوى على بعض المخاطر من الناحية المالية، فإن هذه المؤسسات تنفق على العملية الإبداعية في أضيق الحدود ويكون أكبر أوجه إنفاقها على حماية ما تحتكره من معرفة وبيعه بأعلى سعر ممكن. ولعل ابلغ دليل على ذلك ما تقوم به هذه المؤسسات في حالة دخولها في ضائقة مالية من تخفيض الإنفاق على البحوث والتطوير والتركيز على المبيعات والتسويق، بل وعادة ما يبدأ تقليص العمالة في أي مؤسسة بالتخلص من المبدعين. وبالنظر إلى نسبة ما توجهه هذه المؤسسات للبحوث والتطوير وإنتاج المعرفة، مقارنة بما نتفقه على البيع والتسويق وحماية المصالح فإننا نرى بوضوح مدى انخفاض كفاءة هذه المنظومة في إنتاج المعرفة، حيث قدرت احدي الدراسات أن ما تنفقه شركات الدواء على البحوث الفنية والتطوير على مستوى لعالم يقدر بثلاثة بالمائة فقط من دخل هذه الشركات.


ومما يقلل أكثر من كفاءة هذه المنظومة هو التجاء كثير من هذه المؤسسات إلى إعادة إنتاج معرفة موجودة بالفعل لدى منافسيها، هادفة بهذا إلى لخلق فرصة لزيادة دخلها عن طريق المنافسة في الأسواق الأغنى وبدون إضافة حقيقية للمعرفة البشرية. و قد قدرت نفس الدراسة السابقة أن ثلثي ما ينفق على البحوث الفنية والتطوير في مجال الدواء يهدف لخلق منتجات منافسة لمنتجات موجودة بالفعل مما يقلل من منفعته للبشرية بشكل عام.


ومن أهم الآثار المترتبة على الاعتماد على العائد الاقتصادي كحافز لتطوير المعرفة هو أن ما يُصرَف على البحوث والتطوير وإنتاج المعرفة من أموال يوجه إلى إنتاج معرفة تلبي احتياجات الأسواق الأغنى والقادرة على دفع ثمن نتاج هذه المعرفة. أما احتياجات الأفقر فلا يتم الالتفات إليها، حيث أن ما تحتاجه من معرفة لا يتيح عائد اقتصادي مجزي. و لعل أبلغ مثال لهذا هو سوق الدواء، حيث توجه الموارد لإنتاج أدوية لعلاج أمراض لها أسواق واسعة وغنية كمرض السكر، التي يتوفر لها العديد من العلاجات بالفعل، بينما لا توجه إلا أقل الموارد لإيجاد علاجات لأمراض تعاني منها دول إفريقيا الاستوائية كالملاريا وعمى الأنهار.


مما يزيد الوضع سوءا انه نتيجة للمنافسة، غالبا ما ينتهي الأمر إلى أن يتبقى عدد قليل من الشركات في مجال المنافسة بينما يفلس أغلبها أو يتوقف عن محاولة المنافسة في هذا السوق، ونتيجة لذلك فإن الغالبية العظمى من هذه المعرفة المنتجة، نتيجة لحجبها، ينتهى بها الأمر إلى الضياع. و الحقيقة أن ضياع معارف هامة نتيجة لحجبها ظاهرة لها جذور تاريخية، فعلى سبيل المثال، فإن كهنة الفراعنة قد برعوا في الكيمياء وعلوم التحنيط، إلا أنهم حجبوا هذه المعرفة عن العالم حتى تكون ميزة لهم توفر لهم المكانة والسلطة والسطوة. ومع مرور الزمن طالت الدولة المصرية القديمة مراحل من ضعف وانهيارات المؤسسات الدينية القديمة، ونتيجة لهذا فَقد فُقِدت هذه المعرفة ولم تصل إلينا في أي شكل. فلولا حجب هذه المعرفة وقصرها على طائفة الكهنة، فلربما كانت يد التطوير قد طالتها ولربما كان هناك تطبيقات لنتاج هذه المعرفة إلى يومنا الحالي.


وفي اغلب الظن، فإن من يروج لهذه المنظومة من دول ومؤسسات يقوم بذلك بوعي كامل لنتائج هذه المنظومة من توسيع الفجوة الاقتصادية والمعرفية واستنزاف موارد الدول والشعوب الأفقر وتحويلها إلى سوق دائم لسلعة لا تنتهي وهي نتاج هذه المعرفة. ولعل نظرة إلى الميزان التجاري لمصر يوضح هذا بجلاء، حيث تصدر مصر الغاز الطبيعي وتستخدم عائدات التصدير في شراء منتجات قائمة على الملكية الفكرية كرخص البرمجيات على سبيل المثال. فلو نظرنا إلى الوضع بعد عشرون عاما من الآن، فسنجد أن احتياطي مصر من الغاز الطبيعي قد استنزف، بينما الملكية الفكرية ما زالت كما هي، بل ازدادت. و يؤكد على ذلك ما قاله ألن غرينسبان من اكثر من عقد من أن أكثر من سبعين بالمائة من الناتج القومي للولايات المتحدة الأمريكية قائم على أصول غير محسوسة، هذا يوضح إدراكه لأهمية هذه الأصول للاقتصاد الأمريكي كما يوضح حجم استنزاف موارد الدول الأفقر الذي تحدثه منظومة الملكية الفكرية.

بل قد يصل الأمر إلى أكثر من ذلك بكثير، حيث يصل الأمر في كثير من الأحوال إلى إخضاع هذه الدول اقتصاديا والسيطرة على قراراتهم السياسية بشكل كامل.

من أوضح الأمثلة على ذلك ما يحدث في صناعة إنتاج البذور، حيث تمكنت بعض الشركات من زيادة إنتاجية بعض أصناف المزروعات عن طريق الهندسة الوراثية. إلا انه بإستخدام نفس هذه المعرفة، تم تعديل البذور لجعل ما تنتجه من محصولات عقيمة لا يمكن إعادة زراعتها مرة أخرى. على هذا، أصبح من غير الممكن للدول توفير المحاصيل الزراعية لمواطنيها إلا بالحصول على بذور جديدة من الشركات المنتجة. ومع التوسع في استخدام الدول لهذه البذور في توفير الغذاء لمواطنيها، تصبح معتمدة بشكل كامل على الشركات المنتجة لهذه البذور، مما يتيح لهذه الشركات ومن ورائها الدول الأغنى الضغط والسيطرة على قراراتها السياسية.


و مما يدعم هذا الظن أن الدول والمؤسسات التي تدعم وتروج لمنظومة الملكية الفكرية الحالية نفسها لا تحترم هذه المنظومة إلا إذا كانت تتوافق مع مصالحها. خير مثال لذلك ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية عندما تعرضت لخطر الهجوم بالأسلحة البيولوجية من شراء المضادات الحيوية المطلوبة لعلاج الجمرة الخبيثة من غير المالك الأصلي لبراءة الاختراع، وفي هذا ما فيه من خرق لمنظومة الملكية الفكرية التي تعتبر الولايات المتحدة أكبر الداعمين لها.


مع ازدياد الوعي بالآثار السلبية لحجب المعرفة العلمية، ظهرت العديد من الحركات على مستوى العالم و التي تنادي بحرية المعرفة، ولعل من أبرز و أقدم و أنجح الأمثلة في هذا المجال حركة البرمجيات الحرة مفتوحة المصدر. كانت البدايات الأولى لهذه الحركة في جامعة بيركلي بالولايات المتحدة الأمريكية. كانت الجامعة تعتمد على نظام تشغيل UNIX من شركة AT&T و الذي كانت تتيحه الشركة شاملا لغة المصدر كمنصة لتعليم طلابها انظمه التشغيل. وفي عام ١٩٧٧ عندما قامت الشركة بإغلاق نظام التشغيل وإتاحته بشكل تجاري، قامت الجامعة بالاعتماد على أخر إصدار حر من نظام التشغيل، ببناء نظام تشغيل حر لتوفر للجامعات منصة تساعد على تعليم الطلاب انظمة التشغيل.


لم تأخذ هذه الحركة شكلها كحركة داعية لحرية المعرفة في مجال البرمجيات و تكنولوجيا المعلومات إلا في عام ١٩٨٥ عندما تأسست مؤسسة البرمجيات الحرة (Free Software Foundation) على يد ريتشارد ستالمان. و من أهم إسهامات هذه المؤسسة صياغة رخصة GPL التي تستخدم لترخيص البرمجيات الحرة والتي تجبر من يطور برمجيات مبنية على برمجيات حرة منشورة تحت رخصة GPL بنشر برمجياته شاملة لغة المصدر تحت نفس الرخصة، ساعية بذلك لضمان تراكم المعرفة.


وقد اجتذبت هذه الحركة ملايين المبرمجين على مستوى العالم، وانتجت مئات الآلاف من البرامج الحرة التي تستخدم في مختلف المجالات كنظام تشغيل Linux ومتصفح Firefox وبرنامج عرض الأفلام VLC وغير ذلك كثير. ولعل نظام تشغيل أندرويد الخاص بالهواتف المحمولة والحواسيب اللوحية والمبني على نظام تشغيل Linux هو اشهر نتاج لهذه البرمجيات في وقتنا الحالي.


بخلاف حركة البرمجيات الحرة هناك الكثير من الحركات الداعية لحرية المعرفة. فعلى سبيل المثال هناك حركة تشمل عدد كبير من الجامعات والمعاهد العلمية على مستوى العالم تعمل على نشر مواد البرامج التعليمية التي تدرس في هذه المعلومات كمعرفة حرة. من أشهر هذه المعاهد معهد MIT وهو من أكبر المعاهد العلمية على مستوى العالم. بالإضافة إلى ذلك هناك حركة المشاع الإبداعي التي تهدف إلى تشجيع إنتاج مختلف المعارف والمنتجات الإبداعية تحت رخص تتيح تراكم المعارف والخبرات عن طريق السماح بإعادة استخدام هذه المعارف وتداولها. كما يوجد أيضا حركات تعمل على بناء تصميمات إلكترونية ونشرها تحت رخص حرة. وأخيرا و ليس آخرا، هناك حركة Open Access العالمية والتي تهدف لإتاحة الأبحاث العلمية بشكل حر غير مقيد.


لعل هذه الحركات وما تنتجه من معارف هي المخرج للدول الأفقر من فخ حجب المعرفة الذي يستنزف مواردها ويحرمها من حقها في النمو. إلا أننا يجب ألا نتصور أن الاعتماد على هذه المعارف معركة سلسة، فعلى مر السنين، بَنَت المؤسسات والدول المستفيدة من حجب المعرفة شبكات مصالح ضخمة في الدول الافقر تستفيد من هذه المؤسسات وتعمل على الدفاع عن مصالحها. كما أن هذه المعارف على قدر حجمها وقيمتها، لا تستطيع أن تغطي كل احتياجات الدول الأفقر. على هذا فهناك دور لهذه الدول في استكمال هذه المعارف لتغطي احتياجاتها الخاصة والمشاركة في تحرير المعرفة عن طريق إتاحة ما تنتجه كمعرفة حرة.

الحق في المعرفة التاريخية (فتح الأرشيفات؛ مراجعة التاريخ)

أما ثاني المساحات التي يشملها الحق في المعرفة فهو الحق في المعرفة التاريخية. ولندرك أهمية هذا الحق، علينا أن ندرك أن تصرفاتنا ومواقفنا وتعاملنا مع واقعنا هي نتاج لوعينا، وأن هذا الوعي يتشكل تدريجيا بما يصل إلينا من معلومات تتراكم في عقولنا على مدار السنين. وأن السيطرة على مصادر هذه المعلومات وحجب بعضها وإتاحة آخر والزج بمعلومات مغلوطة يؤدي إلى خلق وعي قاصر مغلوط لعالمنا وبالتالي يمكن ألتنبأ والتحكم في ردود أفعالنا. وليس هذا فحسب، إنما حجب المعلومات التاريخية يحرمنا من التعلم من أخطاء ونجاحات من سبقونا ويجعلنا عاجزين عن مقاومة طغيان من يمتلك مثل هذه المعلومات.


على هذا فإن ممارسات حجب المعلومات التاريخية أو تشويهها هي ممارسات رائجة لدى كل مؤسسة سلطوية تسعى إلى السيطرة على العقول وإخضاع وتوجيه الناس. هناك العديد من الممارسات التي تستخدم لحجب المعرفة التاريخية، من إخفاء مصادر المعلومات، إلى نشر معلومات مغلوطة، إلى التقليل من قيمة هذه المعلومات وتثبيط همم من يسعى للبحث عنها، إلى إنكار المعلومات الحقيقية وإثارة الشكوك والشبهات حول مصادرها، إلى حتى تجريم الإطلاع على بعض مصادر المعلومات.


,لندرك مدى انتشار ممارسة حجب المعرفة التاريخية، ليس علينا إلا أن ننظر إلى أنفسنا. كم منا يعرف ماذا حدث في ثورة ١٩١٩؟ ما هي الأليات التي استخدمها الثوار لمقاومة طغيان الاحتلال؟ وكيف تعامل الاحتلال مع هذا الوضع؟ ما هي الآراء التي وجدت في المجتمع المصري من دعم أو إنكار للثورة؟ أعتقد أن أغلبنا لم يدرك اهمية هذه المعرفة إلا خلال السنوات القليلة الماضية وأن ما عرفناه عن ثورة ١٩١٩ من خلال التعليم المدرسي هو محض قشور لم تشمل ما يفيد في تكوين وعي حقيقي بما حدث في هذه الثورة.


ودعونا نلقي نظرة على تاريخ أحدث. من منا يدرك ما حدث في عام ١٩٦٧؟ كيف وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه؟ من المسؤول عن اتخاذ قرار الانسحاب؟ للأسف لم تتاح لنا هذه المعرفة التي هي جزء أساسي من تاريخنا الحديث. لم يتح لنا ما يمكننا من الحكم على ما حدث والعمل على إلا يتكرر. لقد حجبت الوثائق تحت دعاوى السرية حتى بعد مرور ما يقرب من خمسون عاما، و بالتالي أصبح الحكم على هذه الفترة أمر في غاية الصعوبة.


ولنلقي نظرة على التاريخ القديم. إن ما قام به رمسيس الثاني من محو لإنجازات من سبقوه ونسبها إلى نفسه هو مثال أخر على حجب وتشويه التاريخ. وحتى في التاريخ الإسلامي، فإن الصورة المرسومة في أذهاننا لكثير من الشخصيات والأحداث التاريخية عن طريق ما تعلمناه في المدارس تخالف ما سجلته كثير من الوثائق التاريخية. فعلى سبيل المثال فإن شخصية صلاح الدين الأيوبي التي سجلتها الوثائق التاريخية تخالف ما يدرسه الأطفال في المناهج التعليمية.

وبالطبع فإن الوعي المشوه الذي يتكون من تراكم هذه المعلومات يحرمنا من قدرتنا على الحكم على الواقع والتفاعل معه بشكل سليم. وأوضح مثال على ذلك في الفترة الأخيرة هو جهل الغالبية العظمى من الناس بتاريخ جماعة الإخوان المسلمين وأفكارهم وأهدافهم، مما حرمهم القدرة على الحكم على أفعالهم والتنبأ بها.


ولنستطيع التعامل مع مشكلة حجب المعرفة التاريخية، علينا أولا أن ندرك عدد من النقاط، أولها أن التاريخ في مجمله هو وجهات نظر وليس حقائق راسخة. فبالتأكيد ان ما كتب عن الحرب الباردة من جانب الاتحاد السوفيتي مختلف تماما عن ما كتب عنها من جانب الولايات المتحدة، وأن ما كتبه المسلمين عن فتح الأندلس معارض تماما لما كتبه القوط الغربيين عن هذه الواقعة نفسها. على هذا فإن الوعي بمصدر ما تقرأه يكاد أن يكون بنفس أهمية ما هو مكتوب.

أما ثاني النقاط التي يجب أن نَعيها فهي أن ما يصل إلينا من معلومات ووثائق ليست بالضرورة صحيحة أو كاملة، على هذا يجب أن نتعامل معها من هذا المنطلق. أما ثالث هذه النقاط فهي وعينا بأهمية قراءة التاريخ والبحث فيه، أيضا أهمية قراءته من مصادر متعددة والرجوع إلى الوثائق الأصلية كلما امكن، وعملنا على نشر هذا الوعي بين الناس كلما امكن.

أما رابع هذه النقاط فهي إدراكنا أن وعينا يتشكل من هذه المعارف والأفكار، وبالتالي إدراكنا أن آرائنا ليست مطلقة ولكنها محصورة في سياق هذا الوعي ومنحازة له، وبالتالي محاولتنا التجرد من قناعاتنا السابقة عند الحكم على الأمور كلما أمكن.


كما أن التعامل مع مشكلة حجب المعرفة التاريخية يحتاج منا أن نخوض معارك عدة. فمثلا يجب أن نسعى إلى فتح الأراشيف وإتاحة الوثائق حتى يتيسر لنا الإطلاع على الوثائق التاريخية الأصلية وليس على وجهات نظر الآخرين في هذه الوثائق، حتى لا يكون وعينا عبدا لوجهات النظر هذه. كما يجب علينا أيضا أن نعمل جاهدين على حفظ وارشفة كل ما يتوفر لنا من مواد أصلية حتى نحفظ التاريخ ونمنع تزييفه ونتيح للأجيال القادمة تكوين وجهة نظرهم الخاصة عن الأحداث بدون التأثر بوجهات نظر من نقلوا هذه الأحداث.

الحق في معرفة الواقع المعاش (الحق في الوصول إلى المعلومات و تداولها)

يشمل هذا الحق في معرفة ما يحدث في العالم من حولنا سواء داخليا أو خارجيا وما تتخذه الدولة من قرارات وما تنتجه من بيانات ومعلومات عن أداءها وأداء مؤسساتها وعن المجتمع بشكل عام.


يعد هذا الحق ركن رئيسي في أي ممارسة ديمقراطية، حيث أن هذه المعرفة هي ما يمكن المجتمع من الرقابة على الدولة ومؤسساتها. بدون هذه المعرفة لا يمكن ان تكون هناك مسؤولية حقيقية عن ما يتخذ من قرارات، مما يفتح الباب لفساد الأفراد والمؤسسات بعيدا عن أعين الرقابة الشعبية. ومن أهم مكتسبات الثورة وعي كثير من الناس بأهمية معرفة ما يدور في كواليس الحكم وما يتخذ من قرارات تؤثر على مقدرات البلاد.


لا يمكننا أن نؤكد كفاية على أن السبب الرئيسي في استشراء الفساد إلى الحد الذي نعيشه الآن إنما هو انعدام الرقابة الشعبية نتيجة لعدم توفر معرفة كافية عن الواقع الذي كنا نعيشه. ولعلنا نحتاج أن ندرك أن هذا الحق لا يتحقق بشكل كامل في كثير من دول العالم - حتى المتقدمة منها - فعلى سبيل المثال، فإن جهل الشعب الأمريكي بحجم وأوجه الإنفاق الحكومي على تكنولوجيا التجسس على شبكات المعلومات هو ما أتاح للحكومة الأمريكي أن تنشأ البنية التحتية العملاقة للتجسس على العالم أجمع وعلى المواطنين الأمريكيين أنفسهم والتي فضحتها تسريبات إدوارد سنودن


هناك ركائز عدة نحتاج إليها لضمان هذا الحق. من أهم هذه الركائز قانون للشفافية وإتاحة المعلومات. ويجب أن نؤكد هنا أن هذه القوانين لا تتساوى و أن كثير منها يوضع لخلق صورة توحي بالشفافية، بينما يحمل في طياته حجب المعلومات التي يحتاجها المجتمع لتفعيل الرقابة الشعبية. على هذا، وجب علينا الاهتمام بوجود مثل هذا القانون والاهتمام بتفاصيله لضمان حقنا في معرفة الواقع.


ومن الركائز الأخرى المهمة حرية الإعلام، حيث أنه يعتبر احد أهم قنوات وصول هذه المعرفة إلى المواطنين، ولهذا تعتبر معركة تحرير الإعلام من سيطرة الدولة من أهم المعارك لمحاربة الفساد ودفع الدولة في الاتجاه الصحيح، حيث لا يمكن لإعلام تسيطر عليه الدولة أن يساهم في مساءلتها و محاسبتها.


وركيزة أخرى من هذه الركائز هي البيانات المفتوحة. والبيانات المفتوحة تعبر عن حركة على مستوى العالم تهدف لتوفير البيانات في شكل و تحت إطار يتيح دراستها وتحليلها وإعادة عرضها بدون قيود من حيث الشكل أو التكلفة وبدون فرض قيود على كيفية استخدامها. تهدف هذه الحركة إلى تحقيق اكبر قدر من الاستفادة مما يتم جمعه من معلومات من مختلف السبل. وهناك أنواع لا حصر لها من البيانات التي يمكن الاستفادة منها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك الكثير من البيانات الجغرافية والخرائط، كذالك بيانات اقتصادية مثل ما يتم إنتاجه واستهلاكه في كل دولة وعلى مستوى العالم، وبيانات علمية مثل الخريطة الجينية للإنسان. وبالإضافة إلى هذه الأنواع من البيانات، فإن الحكومات على مستوى العالم تنتج الكثير من البيانات والتي يمكن أن تحقق الكثير من النفع للمواطنين إذا تم نشرها كبيانات مفتوحة وتحقق الكثير في طريق الوصول إلى معرفة الواقع. وكون هذه البيانات نتاج مؤسسات حكومية، فهي بتعريفها بيانات عامة. لهذا قامت الكثير من الدول على مستوى العالم بتبني سياسة البيانات المفتوحة.

لهذا فإن الدعوة إلى تبني سياسة البيانات المفتوحة في دولنا هي احد الخطوات في طريق الوصول إلى معرفة الواقع ومحاربة الفساد.