لماذا النشر برخص حرة في صالح مجموعات التغيير الاجتماعي

من ويكي أضِف
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث

خلال العقد الماضي تعرّفت مجموعات عديدة ومنظمات مجتمع مدني و حقوقيون و مؤسسات إعلامية و مبادرات فنية و ثقافية على الرخص السَّمِحَة (permissive) و الرُّخص الحرّة (free)، و هي تراخيص للمحتوى و البرمجيات و الإنتاج المعرفي بأنواعه يمكن اختصار فحواها في عبارة ”بعض الحقوق محفوظة“ بدلا من عبارة ”كُلّ الحقوق محفوظة“ المستنسخةِ بلا تمعّنٍ في أغلب الحالات. فصارت بعض تلك المؤسسات و المجموعات تنشرُ برخصٍ سَمِحَةٍ إنتاجَها المعرفي من قواعد بيانات و أرشيفات و دراسات و تقارير و رسومات بيانية و إنفوغرافيّات. بدت أهمية ذلك في الفترة التالية على ثورة 2011 التي شهدت انفجارًا إبداعيا في مختلف الوسائط و اهتمامُا بالنشر و الأرشفة مصحوبًا بانشغال عميق بقضايا الإتاحة و النّفاذ إلى المعرفة.

هذا التبني لبعض ممارسات نموذج المعرفة الحرّة و التيّارِ الفكريِّ الذي يضمّها حصل في المجتمع المدني في مصر نتيجة عمل دعاة المصادر الحرّة و المحتوى الحرّ و نشاط مجموعات البرمجيات الحُرّة خلال السنوات العشر الماضية، و هو في الحقيقة اتّجاه لَمْ يلق مقاومة في الوسط الحقوقي، بل قبولا، بحكم تبنّي كثير من مجموعات النشطاء و المؤسسات الحقوقية المنظومة القيمية التي تنبني عليها مبادئ الثقافة الحرّة و تنبع منها ممارسة النشر برخص حرّة، و لكون تلك المجموعات في الأصل عاملة على التغيير الاجتماعي الذي يستلزم نشر المعلومات و الآراء و تغيير المفاهيم، في حين أنّ ممارسة النشر ”بكل الحقوق محفوطة“ لم تكن سوى ممارسة متوارثة سائدة بلا تمحيص — و غالبا مُقحمة — بفعل المصممين و الطبّاعين و بنّائي مواقع الوِب بلا قصد فعلي من أصحاب المحتوى أنفسهم، لذلك كان ظهور فئة من المصممين الذين تبنوا بأنفسهم الرخص الحرة و السمحة مؤثرا للغاية.

لكننا سريعا ما نلاحظ أن اختيارات تلك المؤسسات من تنويعات رخصة المشاع الإبداعي التي لاقت الروّاج الأكبر من بين رخص المحتوى السِّمح، ليست فعليًّا المثلى بالنّظر إلى أهداف منتجي المعرفة هؤلاء. فالمجموعات التي تنشر محتوى برخص سَمِحَة نجدها تختار تنويعة الرخصة التي تتضمن اشتراط عدم الاستغلال التجاري للمصنّف المُرخّص، أيْ شرط ”غير التجاري“ (NonCommercial)، و هو ما يجعلها تقتصر على كونها سَمِحَةً لا حُرَّةً، و يكون من تبعات ذلك:

  • استبعاد هذا المحتوى من التوافق مع متن مُتنامٍ من المحتوى الحرّ كان يُمكن أن يشكّل إلى جانب المحتوى الذي تنتجه تلك الجهات مدخلات لصيرورات إنتاج فكري أكثر تقدُّما و تعقيدًا، بالبناء عليها و المزج معها.
  • يحول دون استيعاب هذا المحتوى و حفظه في مستودعات ضخمة متنامية من المحتوى التشاركي الحرّ تديرها و ترعاها مجموعات ممتدة من منتجي المعرفة، من أمثلة تلك المستودعات ويكيبيديا و مشروعات ويكيميديا الأخرى و مستودعات أخرى للمحتوى الحرّ، و هي مراكم للإنتاج الفكري الحرّ الجيّد، و هي بحكم طبيعتها تضمن فرصة بقاء لتلك الأعمال تفوق قدرة منتجيها، و كذلك فرصة لانتشار ذلك المحتوى المعرفي و تعريف جمهور أوسع مكانيا و زمانيا به، و هو من أهداف منتجي ذلك المحتوى كما ذكرنا فيما سبق.

مسألة السّماح بالاستغلال التجاري للمنتجات الفكرية قد تكون مربكةً ابتداءً لصانعي القرار و غير بديهية، و يكون السؤال هو ”لماذا“ في حين أنّه يجب أن يكون ”لِمَ لا“، فبتحليل القاسم المشترك من أهداف تلك المجموعات و المؤسسات نجد أنّ:

  • الهدف الأساسي لها جميعا إحداث تغيير في الرأي العام و السياسات العامة بنشر ذلك الناتج المعرفي على أوسع نطاق ممكن
  • معظم ذلك الإنتاج مموّل بمنحات أو بموارد ذاتية و هو عموما لا يُقصد من وراءه تحقيق أيّ عوائد مادية إذْ العائد منه اجتماعي صرف، و هو في الأغلب يُنشر و يوزّع بلا مقابل على أمل تحقيق أهداف منتجيه، لذا ففعليًّا لا توجد أيّ فرصة مُضاعة للربح بالحساب الاقتصادي التقليدي.
  • بفرض أنَّ طرفًا غير مُنتج المحتوى سيأخذ على عاتقه طبع و نشر و توزيع تلك المنتجات المعرفية، و حتى بفرض أن ذلك الفاعل سيتقاضى من الجمهور مقابلا لتغطية تكلفة عمله أو حتى لتحقيق فائض، فهذا كلّه متوافق مع الهدف الأساسي و لا يتعارض معه، بل يزيد حتما كفاءة النشر و التوزيع و مداهما.

بل يمكننا القول إنّ ظهور فئة من المستفيدين من استنساخ و نشر ذلك الإنتاج الفكري، و لو حققوا ربحًا منها، كما هو الحال في سوق المصنّفات الفنية و الكتب المستنسخة مثلا، معناه وجود طلب على ذلك الناتج المعرفي ظهر هؤلاء لتلبيته و هو منتهى أمل منتجيه أصلا، و إنْ كان بعيد التصوّر.

الأقرب إلى التصوّر أن منتجي الناتج المعرفي البحثي و الحقوقي و التوعوي و الإرشادي في واقع الأمر لا يمانعون في أن تُتداول تلك المصنّفات إذا كان ذلك سيُسهم في نشر مضمونها الفكري و تعريف جمهور أوسع بها، و الواقع كذلك أنَّ سوق المصنّفات على الأرصفة ­— و هي السوق التي لا تعبأ أصلا بمسألة حقوق الطبع كلّها طالما وُجدت فرصة ضئيلة للربح — لم تلتفت إلى تلك النوعية من الأفلام و الكتب و التصميمات و المنشورات، بل تركز على التجاري الرائج.

بل ربّما وجد المعنيون بإنتاج معرفة مشاعية للأغراض غير الربحية وسيلة لإدخال الناتج الفكري الذي لا يُقصد به الكسب التجاري إلى تلك الأسواق للاستفادة من شبكات التوزيع العضوية، بإيجاد مُغرِيات لتلك الأسواق الهامشية المتجوّلة على الأرصفة لأنْ تقتنص و تسعى للتربُّح مما تنتجه تلك المؤسسات، و لو كان السبيل إلى ذلك وضع بذرات يتحمّل تكلفتها مبدئيا المنتجون أنفسهم ضمن كُلفة عملهم الإجمالية. فيمكن مثلا تصوّر بناء علاقات مع طبّاعين و موزعين صغار و إتاحة الأصول الطباعية للتقارير و التصميمات و الملصقات لهم بميوز كبيرة (high resolutions) و وفق المتطلبات الفنية الطباعية المعمول بها ليسهُل على هؤلاء الموزعين العضويين إعادة إنتاج المحتوى بجودته الأصلية المقصودة، و كذلك أصول الأفلام التسجيلية و التوعوية، فلربما وُجدت فرص تسويقية هامشية لها تحقّق مصلحة طرفي العلاقة، أيْ الانتشار و الكسب، بدل بقائها سلعًا معرفية نخبوية لا تهمّ في الأساس سوى المشتغلين بها و القلّة النَّاشطة في المجتمع. لنتخيّل مثلا سي‌دي أفلام الحق في المعرفة باثنين جنيه على مدخل محطّة المترو، أو مجموعة ملصقات شرح أبواب الموازنة العامة بعشرين جنيه أو دي‌في‌دي عروض بُصّي أو حكاوي التحرير بخمسة جنيه أو كتيّب دراسة معوّقات مشروعات الإسكان الشعبي باثنين جنيه" في ميدان الجيزة، أو "منهج التعبير البصري باستخدام الوسائط المتعددة" في كشك الصحف في ميدان النافورة!

في مجتمعنا لَمْ تكن علاقات حقوق الطبع و الملكية الفكرية قد نَحَتْ إلى وقت قريب المنحى الذي اتّخذته في الدول الصناعية الغربية و ما ترتّب على ذلك من تحوّلها من الغرض الأصلي منها كمحفّز على الإبداع إلى مثبّط له، و هو المنحى الذي أدّى في النهاية إلى بروز حركة مقاومة الملكية الفكرية و المطالبة بإصلاح نظام حقوق الطبع و حركات مثل حركة البرمجيات الحُرّة ثم المشاع الإبداعي، إلى جانب حركات رفض الملكية الفكرية الأكثر راديكالية. لذا يمكننا القول بأنّ السؤال الافتتاحي مطروح أصلا ردّا على نمط إدارة المعرفة المراد إقحامه علينا بفعل اتّفاقات التجارة الدولية و تبعاتها، و هو سؤال موجود كذلك بحكم الاندماج الذي نشهده اليوم في وسائل نشر و توزيع المعرفة عبر الإنترنت و هي الوسائل التي أصبح جانب كبير منها يتطلّب التوافق مع نظم حقوق الطبع و التأليف و منظومات الملكية الفكرية الغربية التي باتت عالمية.

هذا النمط تُمارَس لأجل فرضه على العالم كلّه ضغوط من قِبِل حكومات كُبرى و تُكرّس له أقسام في نصوص اتفاقات التجارة و مفاوضاتها فيه، و فنَجِدُ الجامعات المحلية، التي تتضائل فيها مكانة ممارسة القيم الأكاديمية فيما يتعلّق بالنقل و تبيين المصادر و عدّ السرقة العلمية من الكبائر، قد أخذت إداراتها تسعى حثيثا لزرع تقديس قِيَم الملكية الفكرية بين طلبتها و باحثيها بعشم أنْ ذلك طريق النجاح الشخصي و سبيل مراكمة الثروة و تحقيق النمو الاقتصادي في المجتمع، في مشهد عبثي بسبب استحالة خروج مايستحقّ حمايته فكريًّا أصلا من مجتمع علمي كذاك، و لأسباب أخرى متعلّقة ببنية المجتمع المحيط و النظم السياسية فيه.

و هو كذلك النمط الذي من أثره نجد عبارة ”كُل الحقوق محفوظة“ مطبوعة على ذيل كتب التعليم التي تنتجها وزارة التربية و التعليم في تعارض بالغ مع الغرض من وجودها و عملها من أساسه، وعلى مواقع الإدارات الحكومية على الإنترنت، و على أرشيفاتنا الوطنية المطبوعة و المسموعة و المرئية التي أنتِجَ محتواها كلّه بالمال العام، حيث حوهر المسألة أنّ ”كل ما أنتِج بمال عام فهو ملك عام“

بالنّظر إلى ما سلف يبقى تحرير المحتوى الذي تنتجه المجموعات المعنية بهذه الدعوة، و هي المجموعات النشطة مجتمعيًا و مؤسسات المجتمع المدني و المجموعات البحثية الأهلية، مسألة محورية في صميم وجود تلك المجموعات، و عندها تكون خيارات وضع إنتاجهم في الملك العام أو نشره بخرص حرة أو copyleft خيارات جديرة بالاعتبار و السعي إلى وضع سياسات واضحة تحقّقها، و معها الشقّ الآخر من شقي الإتاحة و هو المتعلّق بنشر النواتج النهائية في صيغ بيانات مفتوحة؛ تبقى كلّها مسائل هامة في مجال الإنتاج المعرفي الحقوقي و البحثي و الدعوي الاجتماعي.

طالع كذلك